أهم الأخبار

سوريون أرهقهم الشتات يبدأون إعمار منازلهم رغم الصعوبات والمخاطر


بعزيمة تقاوم سنوات عمره الذي تجاوز الستين، يحمل راضي أبو بسام مجرافاً وأدوات تنظيف يزيل بها ركام الحرب عن منزله الذي غادره قبل 7 سنوات تقريباً، ويقع في حي «برزة البلد» على الطرف الشمالي الشرقي لدمشق، لكن أبو بسام ليس وحده؛ فحاله مثل كثيرين عادوا إلى بيوتهم بعد سقوط الرئيس المخلوع بشار الأسد، وانهمكوا في إعادة إعمار منازلهم الواقعة في منطقة ظلت مسرحاً لعمليات عسكرية على مدار 14 عاماً، رغم الصعوبات المالية والمخاطر المحتملة لوجود عبوات لم تنفجر تحت الركام.

وأظهرت جولة لـ«الشرق الأوسط» في شوارع أحياء «برزة البلد» و«تشرين» و«القابون» الملاصقة للطريق الدولي السريع والممتدة نحو غوطة دمشق الشرقية، حجم الدمار الذي حلّ بالمنطقة؛ إذ تحول كثير من المنازل والمحال التجارية أثراً بعد عين، ولم يتبقَّ منها سوى الأطلال. أما تلك التي نجت من القصف المباشر ونيران المعارك، فلم تسلم نوافذها أو أبوابها وجدرانها من شدة ضغط الانفجارات في المناطق المحيطة بها.

«أرحم من الشتات»

يقول أبو بسام (65 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إن شارع «المشروح» الذي كان يسكنه قبل الحرب في حي «برزة البلد»، لم يتبقَّ منه سوى «أكوام الأنقاض وجبال الركام». وعلى الرغم من تقدم سنه قرر الرجل العودة لترميم ما يمكنه بناؤه والعمل بنفسه، آملاً الانتقال للسكن سريعاً ولو تحت رحمة سقف مشقق أو جدران متهالكة، ويقول: «تركت داري سنة 2017، وبعد سقوط الأسد رجعنا، عم أنظف بيدي لأرجع أسكن فيه أرحم من الغربة والشتات».

السوري راضي أبو بسام في حي «برزة البلد» بدمشق قرر إعادة بناء منزله المدمر (الشرق الأوسط)

وغادر سكان أحياء «برزة البلد» و«تشرين» و«القابون» مساكنهم، بعدما تحولت إلى منطقة عمليات عسكرية محاصرة منتصف 2017، وكان ذلك بعد خروج مسلحي المعارضة على خلفية اتفاق رعته روسيا يقضي بإجلاء كل من يرفض التسوية مع النظام الحاكم إلى مدينة إدلب شمال غربي سوريا.

ومنذذاك الحين تعرضت تلك الأحياء لمئات من الغارات الجوية والصاروخية من الطيران السوري والروسي، واستمر بعضها على مدى 80 يوماً دون توقف.

«10 قتلى من عائلة واحدة»

عائدة أخرى إلى مسقط رأسها هي ميسون المبيض (55 عاماً)، والتي غادرت منزلها قبل 12 سنة قضتها لاجئة في الأردن، وتقول لـ«الشرق الأوسط» إنها قررت العودة مع زوجها وبناتها الثلاث للعيش مجدداً في منزلهم الذي تحول كومة من الأنقاض.

أثناء حديثها وقفت ميسون وشقيقها أمام بقايا منزل العائلة لتتساءل بحسرة: «ماذا فعل بنا الأسد؟! مو حرام عليه! رغم سقوطه وهروبه ترك إلنا الخراب والدمار وذكريات أقرباء ماتوا تحت التعذيب، كيف بدنا ننسى؟!»

وتحصي ميسون مقتل 10 من أفراد عائلتها (أخوها وثلاثة من أبناء خالها، واثنان من أبناء عمومتها، ونحو 4 أقارب آخرين)، وتقول إن هؤلاء جميعاً «قضوا نحبهم جراء تعرضهم للاعتقال والتعذيب»، واتهمت «وسيم الأسد، والفرقة الرابعة، بالمسؤولية عن تنفيذ جرائم بهذه المنطقة»، وكذلك اتهمت «(حزب الله) اللبناني، وميليشيات إيرانية كانت موجودة بالمنطقة، كانوا يقتلون الناس على الهوية».

ميسون كانت لاجئة في الأردن لنحو 12 سنة وقررت العودة لإعمار منزلها الذي بات كومة أنقاض (الشرق الأوسط)

ولا تزال شعارات «الفرقة الرابعة» التي كان يقودها شقيق الرئيس المخلوع ماهر الأسد، وأسماء قيادات من «حزب الله» اللبناني، وميليشيات إيرانية، منقوشة على الجدران المتهاوية في أحياء أطراف شمال شرقي دمشق، وبات يصعب التمييز بين شارع عام أو مدخل فرعي جراء حجم الدمار الهائل الذي طال أحياء «برزة البلد» و«القابون»، كحال غالبية المناطق التي سيطرت عليها المعارضة بداية سنة 2012 كمدن وبلدات الغوطة الشرقية، وحرستا، ودوما، وجوبر. أما أحياء دمشق مثل «داريا، وقدسيا، وتشرين»، فقد تهدمت مبانيها وامتلأت الطرقات بالأنقاض.

وتحتاج جهود إزالة الركام لتعاون دولي وأممي، وتفوق قدرات الجهات المحلية التي بالكاد فتحت بعض الطرقات بشكل جزئي.

ملامح البيوت تغيّرت

وينقل إقبال سعدي (45 عاماً) الذي كان يمتلك منزلاً وورشة لدهان السيارات، مشاعره لحظة عودته ليلة سقوط الأسد، وكيف صُدم بحجم الدمار الذي طال غالبية المنطقة فشوّه ملامح المنازل. ويقول: «ما قدرت أميز بين محلي ومنزلي اللذين كانا متجاورين، ويقعان على الشارع العام سابقاً، وما تبقى منهما هذه الكتلة الأسمنتية الخرسانية وذكريات حرب كبيرة دارت هنا».

ويُنظر إلى حجم الدمار الذي حلّ بسوريا منذ عام 2011 باعتباره «لا مثيل له في التاريخ المعاصر»، وفق ما وصف وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث في إحاطة عام 2022.

ومنذ شهر يحاول مروان أبو الرضى نسيان الصور المثقلة وذكريات خروجه مكرهاً من حي القابون، غير أنه اليوم بدأ بجهود فردية بناء منزله بعد تهاوي جدرانه جراء الانفجارات التي وقعت في محيطه.

ويوضح أبو الرضى أنه قرر العمل بنفسه: «لن أنتظر وعود إعادة الإعمار، وحتى اليوم لم تبادر أي جهة بالمساعدة. سأقوم بنفسي بهذا العمل، وسكان القابون هم فقط من سيقومون بإعادة الروح إليها».

السوري مروان أبو الرضى قال إنه لن ينتظر جهود الإعمار وبدأ إصلاح منزله (الشرق الأوسط)

ووفق دراسة سابقة لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث، تعرّضت 16 مدينة رئيسة تتوزع على مساحة سوريا لدمار كبير لحق بعشرات الآلاف من المباني السكنية والمنشآت العامة والخاصة، أولها مدينة حلب أكبر المدن المتضررة بعدما وصل عدد المباني المدمرة فيها إلى نحو 36 ألف مبنى، ثم الغوطة الشرقية وأحياء البرزة والقابون بدمار أكثر من 35 ألف منزل، تلتها حمص التي دُمر فيها نحو 14 ألف مبنى، والرقة بنحو 13 ألفاً.

استدانة… وألغام محتملة

وعلى غرار نحو نصف مليون نسمة كانوا يسكنون أحياء القابون وبرزة البلد وتشرين، تعرض منزل محمود السيد (38 سنة) للدمار، وبعد عودته قبل شهر بدأ في بنائه وتلبين منزله وإصلاح ما يمكن إصلاحه.

يقول الرجل: «استدنت مبلغاً من المال، وقمت ببيع الثلاجة والغسالة، بهذه الأموال راح ضبّط غرفة ومنتفعات لتعود أسرتي للسكن هنا من جديد، تعبنا من الترحال الذي استمر 8 سنوات، والإيجارات أرهقتنا».

السوري محمود السيد عاد إلى منزله منذ شهر ويتولى تأهيله (الشرق الأوسط)

ويتفقد مدنيون من سكان هذه الأحياء يومياً منازلهم المدمرة، ويزيلون قسماً من الركام أمام ممتلكاتهم ومحلاتهم، ويعود آخرون منهم على متن سيارات وآليات محملة ببعض من حاجاتهم، في حين يخشى كثيرون الدخول إلى منازلهم خوفاً من انفجار لغم ما، كحال سميرة التي ذكرت: «فيه كثير من البراميل والصواريخ ومخلفات الحرب، نخشى أنها غير منفجرة. أعلمنا البلدية والدوائر الحكومية لمساعدتنا للإسراع في العودة لمنازلنا وأحيائنا».

وبقيت آثار الدمار مسيطرة على معظم المناطق في هذه الأحياء، وكانت أبرز سمة مشتركة لها، حيث انهار سقف كثير من المنازل وتهاوت على بعضها، أما المحال التجارية فقد تعرضت للدمار والبعض منها سُوّي بالأرض، وتناثرت شبكات أنابيب المياه وأسلاك الكهرباء ولم تعد صالحة لتشغيلها مرة ثانية، وأكبر الأحلام لدى سكان هذه الأحياء التخلص من الأنقاض وفتح الطرقات.



المصدر


اكتشاف المزيد من اشراق اون لاين

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من اشراق اون لاين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading