«حماس» تتهم إسرائيل باستخدام التجويع لفرض واقع سياسي وميداني

رفض جان عبيد دخول السوريين قصر بعبدا… فسقط رئاسياً في امتحان الأسد
تنشر «الشرق الأوسط» فصولاً من كتاب «جان عبيد.. ستة عقود في الوطن» للصحافي اللبناني نقولا ناصيف الذي يرصد مسيرة هذا السياسي الذي كان اسمه مطروحاً دائماً لتولي منصب رئيس الجمهورية. تتناول هذه الحلقة قصة اللقاء الذي حصل بين عبيد والقيادة السورية خلال حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد عام 1989، حيث رفض الأول إسقاط حكم ميشال عون عسكرياً من خلال اقتحام الجيش السوري قصر بعبدا، وهو ما أسقطه في «امتحان» اختياره لرئاسة الجمهورية خلفاً للرئيس الراحل رينيه معوض الذي كان قد اغتيل، في نوفمبر (تشرين الثاني)، بتفجير سيارة مفخخة.
ينقل الكتاب قول جان عبيد لرفيق الحريري بعد عودته من دمشق: «أيّ رئيس للجمهوريّة هذا الّذي يأتي وليس له أن يُبْدي ملاحظات على مشروع يُحضَّر له، هذا يعني أنّهم لا يريدونه. طلبتُ حفظ ماء الوجه للجميع». ردَّ رفيق الحريري بصوت مرتفع وانفعال: «أخطأت، أخطأت. استعجلت».
يصدر الكتاب في 29 مايو (أيار) الحالي عن «مؤسسة جان عبيد» و«دار النهار للنشر». هذه تفاصيل الحلقة الأولى…
ساعة لم تأتِ
وَحْدَها المفاجأة – هي القدر عند جان عبيد – يسعها قلب المواقع واستبدال الأبطال وتَعاقُب الفصول. غير المَعْنيّ أو الطّرف في ما تحضَّر عشيّة الوصول إلى اتّفاق الطّائف وغداته، مُكتفياً بِدَور المُتفرّج والمراقب، تُحيلُه فجأةً الصّدمة والفاجعة على أوّل مُرَشّحي خلافة رينيه معوّض.
(…)
في حضور زائرَيْن لبنانيَّيْن هما محمود طبّو وتوفيق سلطان، خابر عبد الحليم خدّام من منزله في دمشق رفيق الحريري في برن في خلال زيارته صديقه السّفير اللّبنانيّ هناك جوني عبده. أحصى الزّائران عدد المكالمات المتتالية. 13 مخابرة إحداها كانت الأكثر لفتاً للانتباه في هذا التّوقيت بالذّات.
قال لرفيق الحريري: «ابحَث عن جان عبيد. هو في باريس. ائتِ به على عجل في طائرتك فوراً إلى الشّام».
من ثمّ الْتَفت نائب الرّئيس السّوريّ إلى زائريه، قائلاً: «ماذا إذا زعل النّوّاب من انتخاب رئيس ليس من صفوفهم؟».
اِتّصل رفيق الحريري بخالد خضر آغا وأخبره بالمكالمة قبل أن يُضيف: «يبدو أنّهم يريدون جان عبيد. هو عندك في باريس. سآتي لاصطحابه».
اِلتقط خالد خضر آغا كلمة السّرّ قبل أن يقول لزائره السّفير في واشنطن عبد الله بو حبيب، وكان لا يزال في منصبه بِتَكليف من ميشال عون رغم انقضاء عهد أمين الجميّل: «جان عبيد هو الرّئيس المقبل».
الشّائع والمعروف أنّ نائب الرّئيس السّوريّ مَن أَوْعَزَ إلى رفيق الحريري إحضار جان عبيد من باريس، بَيْدَ أنّ ما علم به المُرشّح المُحتَمَل في وقت لاحق من حكمت الشّهابي بالذّات، بينما كانا يستعيدان واقعة ذلك اليوم، أنّه هو الّذي «أمر». لم يفعل عبد الحليم خدّام سوى تنفيذ قرار الرّئيس وقد بدا استثنائيّاً ومُفاجئاً: التّفكير في انتخاب رئيس للبنان من غير النّوّاب المشاركين في اتّفاق الطّائف، كما من غير المُرشّحين الطّبيعيّين المُتَداولة أسماؤهم علناً. لم يكن كذلك الأوفر حظّاً من بينهم. لا منصب رسميّاً أو موقع له. أفضل امتياز يُبرّر رسو الخيار عليه أنّه صديق قديم لدمشق وحليف لها.
من برن خابر رفيق الحريري جان عبيد في منزله في باريس، في جادة ديانا، وكان لأيّام قليلة خَلَت وصل إلى العاصمة الفرنسية لِتَمْضِية بضعة أيّام فيها. بيتاهما مُتجاوران تفصل بينهما بضعة مئات أمتار: الأوّل برقم 5 والثّاني برقم 2.
في المكالمة قال رفيق الحريري: «ماذا تفعل؟ لديك هاتف آخر؟».
ردَّ بالإيجاب.
عاود الاتّصال به على رقم مختلف من غير أن يُفْصِح عن السّبب: «حكمت الشّهابي وعبد الحليم خدّام يُجرّبان الاتّصال بك كي يُكلّماك. الرّئيس الأسد يريد الاجتماع بك».
ردَّ: «غداً سأكون في زغرتا لحضور مأتم رينيه معوّض، ولا يَسَعُني التّغيّب عنه».
قال: «سأصحبك في طائرتي من باريس إلى دمشق ثمّ تذهب إلى زغرتا».
في خلال ساعات، أضحى رفيق الحريري في منزله في باريس، وكان وافاه إليه جان عبيد. تَعَشّيا سريعاً. لحظتذاك قال له صاحب البيت وهما يهمّان بالجلوس: «للمرّة الأخيرة الآن أترأّس الطّاولة».
تلك إشارة لم تُخْفَ دلالتها على محدّثه، مُلمّحاً إلى ما قد ينتظره في دمشق بإزاء انتخابات الرّئاسة اللّبنانيّة.
في الطائرة، في طريق العودة يرافقهما سمير فرنجيّة والفضل شلق، دار حوار مهم بينهما. أقرب ما يكون إلى تمهيد لما سيأتي. لم يُفصِح جان عبيد أمام أصدقائه لاحقاً سوى عن جزء منه، مُتَكتّماً عن بعض التّفاصيل. بَيْدَ أنّه استنتج في ما سمعه علامات سلبيّة مُبَكّرة ستؤكّد له فيما بعد أنّ عبد الحليم خدّام ورفيق الحريري – وكِلاهُما أَفْرَط في إظهار حماستهم لانتخابه رئيساً – كانا يريدان إلياس الهراوي في المنصب.
بإيعاز من نائب الرّئيس السّوريّ، عمل رفيق الحريري على تحضير جان عبيد لجوانب من مضمون المقابلة في دمشق كي تنتهي به رئيساً للجمهوريّة: القرار الأوّل الّذي تريده منه إخراج ميشال عون من قصر بعبدا بالقوّة. على نحو غير مباشر عبّر عن هذا الموقف بسؤال.
أَوْحَى له بخيارات صعبة يقتضي أن يتّخذها. من ثمّ حدّثه في موضوع غير ذي صلة بما يُفترض أن يخوض فيه في السّاعات التّالية. كلّمه عن إمكاناته الماليّة الهائلة ومقدرته على التّعاون معه في المرحلة المُقبلة كشريك ما إن يصبح في الرّئاسة، مُسهِباً في الكلام عن المستقبل الواعد كي يستخلص أنّ «في الإمكان معاً بناء لبنان جديد». من دون البَوْح أمامه بصفقة يعرضها عليه أو خطوات مُحدّدة، طرح العرض في صيغة سؤال ثانٍ.
لم يُجِب جان عبيد عن أيٍّ من السُّؤالَيْن، ولا أبرَز تصرُّفاً يُستشمّ منه ردّ فعله حِيال ما سمع، مُكتفياً بالإصغاء إلى مُحَدّثه. تهيَّب سلفاً الموقف بأن استنتج أنّ مفاوضات شاقّة تنتظره في سوريا تشي باكراً بأنّه مَدْعُوّ إلى أن يكون في منصبه المُقبِل أداة ليس إلّا.
بِوُصولهما إلى دمشق في التّاسعة إلّا ربعاً، مساء 23 نوفمبر (تشرين الثّاني)، اجتمع جان عبيد، في القصر الرّئاسيّ السّوريّ، بعبد الحليم خدّام وحكمت الشّهابي. شارك رفيق الحريري لبعض الوقت قبل أن ينسحب بانقضاء نصف ساعة عليه.
في النّصف السّاعة التّالية دارَ هذا الحوار.
فاتَحَهُ عبد الحليم خدّام في احتمال انتخابه رئيساً للجمهوريّة، فعقّب جان عبيد باقتراح انتخاب سليمان فرنجيّة سنتَيْن يتمكّن خلالهما من إعادة تَوْحيد البلاد، من ثمّ يَخْلفه هو إذا كان التّقدّم في السّنّ عند الرّئيس السّابق (78 عاماً) يَحُول دُونَ بقائه في المنصب.
ذكّره بِترشُّح سليمان فرنجيّة لجلسة 18 أغسطس (آب) 1988 الّتي حِيلَ دون اكتمال نصابها القانونيّ بِتَواطُؤ بين قائد الجيش ميشال عون وقائد «القوّات اللّبنانيّة» سمير جعجع. مهّد لاقتراحه هذا بالقول: «الانطلاق سيكون أصعب مع رئيس من غير النّوّاب لأنّهم يريدون واحداً منهم، ولأنّ أكثر من جهة استنفرت نوّاباً موارنة علناً لذلك».
أضاف: «أنا لا أتقدّم على الرّئيس فرنجيّة. ليأتِ رئيساً لسنتَيْن ثمّ أخلفه».
ردَّ: «نحن نبحث في اسمك أنت، ومعك».
ثمّ سأله ماذا يتوقّع أن يفعل بميشال عون متى انتُخِب رئيساً؟
ردَّ: «كما أَعْطيتُم زعماء الميليشيات فرصة للدّخول إلى السّلطة، نُعَيّنه وزيراً للدّفاع أو للدّاخليّة. ليُعطَ فرصة. نؤلّف حكومة فيها الأفرقاء جميعاً، منهم ميشال عون وفيها سليمان فرنجيّة وسمير جعجع».
عقّب بالرّفض: «لن يقبل، ولا فرصة له».
قال جان عبيد: «كما فعلتم مع سواه، ليكنْ له. أعطيتموهم فرصة لدخول السّلطة وفي اتّفاق الطّائف، وبينهم مقاتلون وقَتَلة».
(…)
أضاف: «هل أذكّرك بما نصحتك به عام 1983 بالتّحاور مع إلياس حبيقة وميشال المرّ وميشال سماحة، وبماذا أجبتني أنّ ماضيَّ الوطنيّ والقوميّ العربيّ لا يُغطّي على الموساد».
قال عبد الحليم خدّام: «هذا جاسوس. أليس هو (أي ميشال عون) الّذي يُريد تكسير رأس سيادة الرّئيس ودقّ مسمار في نعش النّظام؟».
ردَّ (جان عبيد) مُقلّلاً من أهمّيّة ما سمع: «كان كلام معارك وهوبرة (أي تصعيد كلامي فقط)… وليس كلام اقتدار. ما أُعطِي لأولئك لا يصحّ حجبه عن قائد للجيش ورئيس للحكومة الدّستوريّة الّذي هو ميشال عون».
قال: «وإذا رفض؟».
ردَّ جان عبيد: «نُوجّه إليه إنذاراً بإخلاء قصر بعبدا. الجيش اللّبنانيّ هو الّذي يُنذره».
قال: «ليس هناك جيش لبنانيّ».
ردَّ: «نجمع أَلْوِيَته. الجيش اللّبنانيّ هو الّذي يقود قَمْع التّمرّد».
قال عبد الحليم خدّام: «يعني أنّك لا تُريد الجيش السّوريّ أن يتدخّل».
ردَّ: «نجمع أَلْوِيَة الجيش اللّبنانيّ، ويكون الجيش السّوريّ قوّة إسناد للجيش اللّبنانيّ عندما يتحرّك».
قال: «إذاً لا تريد دخول الجيش السّوريّ إلى قصر بعبدا؟».
ردَّ: «اِجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت إلى بعبدا ولم تدخل إلى القصر الجمهوريّ، مقرّ كرامة الشّرعيّة. هل يجوز أن تكون سوريا أقلّ حرصاً على هذه الكرامة، وأن تُقْدِم على ما لم تفعله إسرائيل؟».
قال عبد الحليم خدّام: «لا. لا وقت. علينا أن ندخل نحن».
ردَّ: «يدخل الجيش اللّبنانيّ بقيادة اللّواء سامي الخطيب الّذي يُعيد تَجْميع الأَلْوِيَة…».
قاطعه: «لا. الجيش السّوريّ هو أوّل مَن يدخل».
بالوُصول إلى هذا الحدّ من الحوار، دخل عليهم حافظ الأسد في العاشرة إلّا ربعاً.
الحوار نفسه، باستفاضة، تناول جوانب شتّى في ما يُفتَرَض أن تكون عليه المرحلة المقبلة بعد اغتيال رينيه معوّض وانتخاب خَلَف له.
في المُستهلّ، قال الرّئيس السّوريّ: «أتى (وزير الخارجية السعودي الأمير) سعود الفيصل إلى هنا وعرضنا معه ثلاثة أسماء قادرة على تحقيق المصالحة الوطنيّة وتنفيذ اتّفاق الطّائف. اثنان من داخل مجلس النّوّاب هما رينيه معوّض وإلياس الهراوي، والثّالث من خارجه هو أنت. رينيه معوّض رحل. الآن أمامنا اسمان، أنت وإلياس الهراوي».
عاد دوران الحوار إلى أوّله، وهو الحصول على موافقته لاستخدام القوّة لفرض الشّرعيّة الجديدة المُنبَثِقة من اتّفاق الطّائف وإسقاط ميشال عون. سرعان ما توقّف عند التّحفّظ نفسه. لم يُوَفّر حافظ الأسد مُتّسعاً من الوقت للإشادة بصديقه الّذي يعرفه منذ عام 1963، غير أنّه حرص على الاستماع إلى نائبه ورئيس الأركان يُحاوِران المرشّح الّذي أراده هو بالذّات. بدا عبد الحليم خدّام أكثر إيغالاً من رئيسه في فرض الشّروط، إلى أن قال في ختام الاجتماع: «لن تنتظر سوريا جمع أَلْوِيَة الجيش اللّبنانيّ وتحضيرها».
إشارة صريحة إلى استعجال دمشق إنهاء ظاهرة ميشال عون بآلتها العسكريّة فحسب.
بَيْدَ أنّ جان عبيد أعاد أمام الرّئيس وجهة نظره، مُقدِّماً تَبْريره المانع استعمال القوّة لإنهاء وجود ميشال عون في قصر بعبدا ووزارة الدّفاع بأداة الجيش السّوريّ. وهو ما تمسّكت به القيادة السّوريّة.
عند الثّالثة إلّا ربعاً فجر 24 نوفمبر (تشرين الثّاني) ارفضّ الاجتماع بِخَيبة. غادر جان عبيد وعبد الحليم خدّام وحكمت الشّهابي وعلي دوبا وغازي كنعان القصر الرّئاسيّ مُتَوَجّهين إلى مكتب نائب الرّئيس السّوريّ في حيّ أبو رمانة. هناك كان ينتظرهم رفيق الحريري وسمير فرنجيّة.
مَكَثوا في المكتب إلى قرابة الرّابعة، يُواصِلون المناقشات إلى أن خرجوا تباعاً. أوّلهم كان جان عبيد، تَبِعه عبد الحليم خدّام وحكمت الشّهابي وعلي دوبا وغازي كنعان ورفيق الحريري مُسرِعاً إلى جان عبيد قبل أن يستقلّ السّيّارة.
بصوتٍ عالٍ أقرب إلى أن يكون صراخاً، قال له: «لماذا فعلت ذلك؟».
كان قد أضحى عندئذٍ على مقعده في سيّارته. ترجّل منها مُتَوجّهاً إلى رفيق الحريري: «هذه ليست ساعتي».
سأل: «كيف ليست ساعتك؟ الإخوان يُريدونك».
قال: «أيّ رئيس للجمهوريّة هذا الّذي يأتي وليس له أن يُبْدي ملاحظات على مشروع يُحضَّر له، هذا يعني أنّهم لا يريدونه. طلبتُ حفظ ماء الوجه للجميع».
ردَّ رفيق الحريري بصوت مرتفع وانفعال: «أخطأت، أخطأت. استعجلت».
كرّر قبل أن يصعد إلى سيّارته ثانيةً ويغادر للتّوّ: «ليست ساعتي. هذه ساعة ليست فيها كرامة، ورئاسة ليست فيها كرامة».
كان مرافقه حنّا أبي عقل وسائقه جورج عوض ينتظرانه منذ منتصف اللّيل في فندق «شيراتون» بعدما أَوْعَزت إليهما لبنى (زوجة جان عبيد) الذّهاب إلى «الغميق». كلمة السّرّ المُتّفق عليها في الكلام عن دمشق. في طريقهما إليها من تربل عبر حمص سمعا عند معبر العبدة في الشّمال إذاعة «صوت الشّعب» النّاطقة بلسان الحزب الشّيوعيّ اللّبنانيّ تُذيع نبأً مفاجئاً: «غداً جان عبيد رئيساً للجمهوريّة».
عند الثّانية بعد منتصف اللّيل، وكانا لا يزالان في الفندق، طلب منهما مُرسَلون من مكتب عبد الحليم خدّام الذّهاب إليه في حيّ أبو رمّانة.
ما إن صعد إلى السّيّارة بُعَيد الثّانية والنّصف قال للمرافق والسّائق: «خذاني إلى طرابلس. سأمر على جورج سعادة في شبطين ثمّ نذهب إلى بكركي، ثمّ إلى بلّونة، وبعد الظّهر إلى جنازة الرّئيس معوّض».
في طريقهما على أوتوستراد دمشق – حمص الْتَفتَ إليه حنّا أبي عقل قائلاً: «صار في إمكاننا مناداتك فخامة الرّئيس».
ضحك قبل أن يقول: «كان يُفترَض أن يكون. لا، ليس هذا. السّاعة العاشرة اليوم في شتورة سينتخبون إلياس الهراوي رئيساً للجمهوريّة».
قال المرافق باستغراب: «ما سمعناه في الإذاعة سوى ذلك (عكس ذلك)».
ردَّ: «قلت لك كان يفترض أن يحدث. لست مضطرّاً إلى أن أحمل المسألة على ضميري. سيقتحمون قصر بعبدا. سيُهرَق دم كثير. لن أحمل ذلك في مقابل الرّئاسة. إذا كُتبت لي ستأتي».
صمتَ لبرهة وقال: «لست مضطرّاً إلى أن أكون مُختاراً على الرّملة البيضاء» (مقر مؤقت للرئاسة اللبنانية خلال وجود ميشال عون في قصر الرئاسة ببعبدا).
أضاف: «الآن غازي كنعان سيذهب إلى زحلة للاجتماع بإلياس الهراوي، والسّاعة العاشرة ينتخبونه رئيساً للجمهوريّة».
سكتَ من ثمّ واستسلمَ إلى النّوم بعض الوقت. طوال الطّريق حتّى الوصول إلى طرابلس، أُطبِق صمت كامل.
السّادسة والنّصف صباح 24 تشرين الثّاني، كان قد أصبح في شبطين بالبترون. أطْلَعَ جورج سعادة على ما دار في دمشق قبل أن يكشف له رئيس حزب «الكتائب» أنّ قائد «القوّات اللّبنانيّة» سمير جعجع كان عنده، وغادر قبل دقائق وهو يقول له: «اِنتخبوا أيّاً يكن. رائف سمارة حتى. لكن خلّصوني من ميشال عون».
زار من بعدُ بكركي، وأعلم البطريرك المارونيّ مار نصر الله بطرس صفير بوقائع دمشق.
في السّاعات الأولى من الصّباح، بدأ التّحضير الفعليّ لحسم اسم الرّئيس المُقبِل، ولم يكن مجهولاً ولا خافياً.
لا سبب مباشراً لانهيار المحاولة الاستثنائيّة هذه سوى رفض جان عبيد أمام حافظ الأسد ما كان رفضه قبل وقت قصير أمام عبد الحليم خدّام وحكمت الشّهابي. مع ذلك، ثمّة شكوك ساورت كثيرين ممّن يُلمّون بالعقل السّوريّ في ألغازه السّرّيّة وإشاراته العلنيّة غير المُفصحَة بالضّرورة عن الحقيقة الّتي يتطلّبونها. لذا عُدَّ العرض على جان عبيد شرطاً تعجيزيّاً لئلّا يوافق بُغْيَة الوصول إلى الخيار الأفضل للمجازفة المُتَوَخّاة، وهو إلياس الهراوي الّذي مَالَ إليه عبد الحليم خدّام وغازي كنعان في الأصل.
لم يعنِ الانتقال من خيار إلى نقيضه كسراً لقرار الرّئيس السّوريّ الّذي أراد جان عبيد في هذا المنصب. تفسيران متلازمان أُعْطِيَا لِمَا حدث: أوّلهما رفضه شروطاً مُلزمة اقترنت بالرّئاسة كي تكون جزءاً لا يتجزّأ منها واجبة الحصول، وثانيهما إفراط عبد الحليم خدّام في الإصرار على استخدام القوّة والجيش السّوريّ بالذّات كي يتوقّع الجواب الّذي يُرْضيه.
من السّاعات الأولى صباحاً تَدَحْرَجت كرة التّطوّرات المُتَسارِعة الحاسمة.
مُذْ أدرك إخفاق فرصة وصول جان عبيد إلى رئاسة الجمهوريّة، طلب رفيق الحريري من مُعاوِنَيْه الفضل شلق وسمير فرنجيّة التّوجّه من دمشق إلى منزل إلياس الهراوي في حوش الأمراء. وقتذاك كان نائب زحلة قصد فندق «بارك أوتيل» في شتورة ولزمه بعدما طلب منه غازي كنعان البقاء فيه حتّى إشعار آخر. كان الْتَقاه قبل وقت وأعلمه بِرَسْوِ الخيار عليه. للفور قصَّ إلياس الهراوي على سمير فرنجيّة والفضل شلق ما دار بينه وغازي كنعان.
خابَرَه الضّابط السّوريّ الكبير على عجل مُكتفياً بعبارة مُقتَضَبة: «أريد أن نتحدّث معاً على (رواق). مُرّ عليّ في المكتب في عنجر».
هناك قال له: «اِذهب الآن إلى الشّام. أبو جمال ينتظرك».
ردَّ: «ما تطلبونه من سواي أستطيع إعطاءه لكم».
في مكتب عبد الحليم خدّام في العاصمة السّوريّة، سمع منه العبارة الآتية: «الآن أوانها. بيار حلو لا يريد. مخايل ضاهر لم يعد وارداً. سليمان فرنجيّة يتعذّر إيصاله بسبب ضغوط دوليّة. لم يتبقَّ سواك».
كان اسم إلياس الهراوي الفرصة الأخيرة لدمشق كي تُنجز انتخابات رئاسية لبنانيّة على عجل لا أثر فيها لأيّ أحد سِواها. اختارت الاسم وبات عليها إدارة تَرْئيسه. في الرّجل المواصفات الّتي تُريدها منه بما يُطَمْئِنها إليه.
عند السّابعة والنّصف مساء 24 تشرين الثّاني انتُخب رئيساً للجمهوريّة من الدّورة الثّانية للاقتراع بغالبيّة 47 صوتاً، إلى خمس أوراق بيض. في الدورة الأولى نال 46 صوتاً إلى أربع أوراق بيض وورقة مُلْغاة باسم إدمون رزق من 52 نائباً حضَروا الجلسة. للمرّة الثّانية بعد عام 1982، بدافع واحد هو الإلغاء بالاغتيال، يُنتَخَب رئيسان للجمهوريّة في أقلّ من شهر.
في إشارة مُعبِّرة إلى تلبُّد وبُرودة في علاقتهما نَجَمَا عن غموض الموقف المُضْمَر وما دار بينهما في الطّائرة بين باريس ودمشق والإيحاءات المُلتَبسة، قال جان عبيد لرفيق الحريري في وقت لاحق في حضور الفضل شلق: «المرأة الأنيقة تُبصرها لدى خروجها وليس عند دخولها بعد أن تكون حدّقت فيها طويلاً».
صَعُبَ على كلّ مَن حدّث جان عبيد فيما بعد انتزاع اعتراف منه بندمه على تَفْويت الفرصة النّادرة تلك (وصوله للرئاسة). بَيْدَ أنّها مُذ ذاك ستحيله مُرشّحاً دائماً طبيعيّاً وجدّيّاً لرئاسة الجمهوريّة. خلافاً لكثيرين ممّن تحدّثوا معه في ما حصل ليل 23 تشرين الثّاني 1989 والسّاعات الأولى من فجر اليوم التّالي، إنّه أهدر حظّاً يُؤْتَى بِمِثله مرّة واحدة في الحياة، وصف ما حصل بمحطّة ليس إلّا، قاطعاً أنّه ليس خاتمة المسار: «ما أتى في المرّة الأولى يعود في أكثر من مرّة أخرى». أكّد أنّ دوره لا ينتهي: «كلّ أزمة تمرّ تدفع بي إلى الأمام أكثر وأخرج منها أقوى».
قدّم لابنته هلا تفسيراً عندما سألته بعد وقت طويل مع إخفاق محاولات وصوله لاحقاً إلى رئاسة الجمهوريّة أعوام 1998 و2004 و2007، هل غيَّر بنفسه قدره يوم وقف في طريقٍ ما كاد يكون في المرّة الأولى، فأجابها: «قدري محتوم. عندما يقتضي أن يصل سيصل. عندما تَحين السّاعة فإنّ أحداً لا يقف في وجهها».
راح يُؤكّد تالياً أنْ ليس له أن يتصرّف سوى أنّه مرّ وسيمرّ دائماً بـ«تجارب واختبارات وتَحَوُّلات لن تؤثّر عليّ لأنّ القدر هو باعِثُها».
لكنّه في أوقات مُتفاوتة عندما كان يخطر في باله التّحدّث عن ليل دمشق يومذاك وما دار داخل الجدران، وكتم جزءاً كبيراً منه، كان يستخلص من إعادة قصّ ما حدث أنّ الإرادة الإلهيّة لم تهبط في ذلك الأوان. من قبل – هو المخضرم في مُواكَبة العقود القليلة المُنصَرِمة – «ليس الخيار الشّخصيّ كافياً للوُصول إلى الرّئاسة، بل انتظار التّوقيع الإلهيّ».
لم يأتِ إليه اغتيال رينيه معوّض بساعته.
تمسّك بذريعة عدم قبوله برئاسة شروطها غير متساهلة صارمة لا تنسجم مع ما هو مطبوع عليه برفض العنف. ليس له أن يناقش في برنامج حكمه، المُعدّ سلفاً له منذ اليوم الأوّل في معزل عنه. ليس له إلّا التّسليم به. اختار أن يقول من حين إلى آخر في معرض التّبرير، أنّ ما فعله من أجل مصلحة لبنان وسوريا في آن، ولا يسعه سوى أن يكون في صلب اقتناعاته. كثيراً، عندما يُسأَل أو يأتي على ذِكْر الوقائع تلك مع المُحيطين به في عائلته وأصدقائه وزُوّاره وصحافيّين باستِعادتها بفضول، يُصرّح بأنّه لم يرفض الرّئاسة، إلّا أنّ إقرانها بشروط ليست في نظام مساره وعمره ستقوده حتماً إلى التّخلّي عن العرض، فلم يتردّد في القول: «كنت مُستعدّاً للمهمّة لا لدفتر الشُّروط». في ظنّه أنّه كان قادراً على حلّ المشكلة بالتّفاوض. تجمعه بميشال عون سنين طويلة ماضية دونما أن ينقطع عنه في ذروة استعار الحرب مع سوريا. بالحلّ السّلميّ وَحْدَه، في حسبانه، تنجح مهمّته كرئيس.
لم تكن هذه وجهة النّظر السّوريّة بمقاربتها العرض حينذاك. ما تَوَخَّته يتجاوز التّصرّف المثاليّ والانسجام مع الذّات إلى ما يدخل في صلب مصالحها وحساباتها في معالجة المُعضلة اللّبنانيّة: مُتَيَقّنة من أنّ ميشال عون الّذي رفض وساطات محلّيّة وعربيّة ودوليّة شتّى، لن يستسلم إلى الشّرعيّة الجديدة المُنبَثِقة من اتّفاق الطّائف ولن يسلّم الحكم. بِدَورها دمشق لن تدع فرصة استعادة دورها كاملاً في لبنان تفوتها. ذريعتها المُعلَنة لذلك فرضُها إنجاح تطبيق اتّفاق الطّائف وإنهاء الحرب في لبنان وتجريد الميليشيات من سلاحها، المعهود إليها وَحْدَها تطبيقه. لم تُرِد مُذ ذاك إبرام تَسْوِية جزئيّة مُكَمّلة للاتّفاق الأمّ باسترضاء ميشال عون لإلحاقه بالدّولة الجديدة. ذلك ما فسّر أنّها لم تفتح إلّا جزئيّاً ومُؤَقّتاً باب التّفاوض غير المباشر معه في انتظار نَيْلها تَفْويضاً باستخدام القوّة في الوقت المناسب.
كان من السّهولة بمكانٍ إيجاد جواب عن تصرّف جان عبيد ذاك مكابرة أو صدقاً مع الذّات أو تسليماً بقدره الّذي لم يحِن في حسبانه. كان عليه دائماً البحث عن الحجّة الدّامغة المُقنِعة الّتي تجعله مُحِقّاً في الدّفاع عمّا فعل – وكان يقتضي أن يفعل – كلّما فاتحَهُ أحد من أصدقائه في إضاعته حظًّاً نادراً. من أصدقائه مَن سمع من مسؤولين سوريّين – ربّما بَانَ ذلك شكليّاً لتبرير الذّهاب إلى خيار معاكس – خيبة أمل من امتناعه عن القبول بالعرض. بإظهار هؤلاء أسفهم لردّ فعله، قالوا إنّ اغتيال رينيه معوّض سمح لدمشق بأن تنفرد بقرار انتخاب الرّئيس اللّبنانيّ بلا شُرَكاء خلافاً لتسليمها بالرّئيس المغدور، فتُلْقي بثقلها لإنجاح مَن تعرفه عن قرب وتثق به كي تباشر من خلاله علاقة جديدة بين البلدَيْن لا تُشبِه أيًّا من المراحل السّابقة.
قيل إنّه سقط في فحص دمشق على نحو فاجأها، على الأقلّ في ما عبَّرت عنه أمام أصدقائها اللّبنانيّين. مأخذهم عليه من دون أن تتأثّر فيما بعد علاقته بالرّئيس، أنّه واحد من «المعلّمين» القدامى في إلمامه بالعقل السّوريّ وثقافة النّظام ولغته وفكّ ألغازه وأسراره وقراءة الباطن فيه والمُوحَى به. أكثر المُخيَّبين حكمت الشّهابي أكثر المُتَحَمّسين لانتخابه. كان ثاني الموارنة اللّبنانيّين من بين مُرشّحين جدّيّين، تبعاً لذلك الاستنتاج، يرسب في فحص سوريّ. سبقه ميشال إدّه إلى رفض الرّئاسة للسّبب نفسه، وهو اشتراط الانتخاب بِتَوَسُّل العنف.
بِدَوره، لمس نبيه برّي انزعاج دمشق بأنْ «أضاع (جان عبيد) فرصة عمره المؤكّدة والمضمونة كان وراءها الرّئيس السّوريّ بالذّات بأن فاجأه هو ردّ فعله». ذلك ما سيُبرّر ألا يتكرّر فيما بعد حظّ مُماثِل ويصل إلى ما كان يطمح إليه، «ما إنْ أهدر اللّحظة الجدّيّة الحقيقيّة المُتاحَة الّتي حسبها له السّوريّون. مع ذلك، في ما بعد، دعموا وجوده إلى جانبهم وساهموا في وصوله إلى مجلس النّوّاب وتعيينه وزيراً دونما استرجاع «الفرصة الضّائعة».
اكتشاف المزيد من اشراق اون لاين
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.