أهم الأخبار

المكان بوصفه حالة شعرية



تتكئ الشاعرة الشابة شمس المولي على المكان بوصفه حالة شعرية، يكتسب من خلالها سمات خاصة، تخترق أنساقه الجغرافية القارة المحددة، ليصبح صيرورة حياة وشكلاً من أشكال الوجود المغاير، فالمكان ليس مجرد رحم للبشر والعناصر والأشياء، فحسب، إنما هو رحم للزمن، وتجليات الروح والجسد أيضاً.

يطالعنا هذا على نحو لافت في ديوان الشاعرة «العبور إلى البر الغربي» الصادر حديثاً عن دائرة الثقافة بالشارقة وبيت الشعر بالأقصر. حيث يشي العنوان بأننا أمام رحلة في الزمن، تتعدد فيها تشكيلات المكان جغرافيا وإنسانياً وحضارياً، ومن خلالها يتحول العبور إلى فعل كينونة وهوية، ويصبح جسراً بين حياتين وزمانين، أحدهما ابن الراهن المعيش، والآخر ابن الماضي السحيق الضارب في القدم، ناهيك عن أن رمزية العبور ضاربة في الميثولوجيا الفرعونية، حيث يمثل الموت عتبة للعبور إلى الحياة الأبدية… هنا تبرز البيئة الحاضنة بتمثلاتها المتنوعة كبؤرة إيقاع حية تجمع اللاحق بالسابق، وفي تواشج شعري، يستولد من ظلالهما لغة ذات طبيعة خاصة، وإحساساً شفيفاً بالذات، وخصوصية فضائها المكاني، ووعيها بأبعاده الجمالية والحضارية.

ببساطة مغوية يحيلنا هذا العنوان إلى مدينة الأقصر مسقط رأس الشاعرة، وهي المدينة التي تشكل المخزن الأكبر لتراث الحضارة المصرية القديمة العريقة، وتحتوي على ضفتي نيلها الكثير من كنوز هذا التراث، منها المعابد ومقابر الملوك والملكات، يكمن معظمها في البر الغربي، حيث يحتضن الجبل الأموات في مقابرهم ومعابدهم، والأحياء الذين يزورنها ويتحسسون في نقوشها ورموزها معنى الأثر الباقي الخالد، ومن أبرزها مقبرة توت عنخ آمون، ومعابد الرامسيوم، وحتشبسوت، وهابو، بالإضافة إلى معبدي الأقصر والكرنك في البر الشرقي.

تلعب الشاعرة بقصائدها في هذا البراح الثري الخصب، تمزج مراهقة الخيال برسوخ الفكرة والمعرفة واللغة، وفي ظل وعيها بصوتها الخاص تطرح مفارقات عالمها الأنثوي المثقل بحزن وشجن عاطفي مباغت، مفتوح بطفولة وحيوية على المكان، وهو ما يبرز بشكل لافت في القصيدة الأولى «فكرة في الخيال» التي تستهل بها الديوان، وفيها تقول:

«أنام على فكرة في الخيال

أداوي بها حزن قلبي قليلاً

أجيب السؤال الذي خفت منه

أقول الكلام الذي لن أقولا

أمدد حلمي مسافة شَعري الحزين

فقد عاش تحت السواد خجولاً

ولم ينسدل مرة فوق ظهر الطبيعة

أو ينتعش بالنعومة إن لا مسته غّفَولا»

وفيما يشبه المتوالية الوجودية تشكل الشاعرة ديوانها الأول الواقع في (85 صفحة) من خلال خمسة عناوين رئيسية: «خيال، جمال، قلق، رحيل، حزن». تبدو هذه العناوين بمثابة كتل نصية، تفيض عنها 16 قصيدة تشكل متن الديوان، تنتمي أغلبها إلى بنية قصيدة التفعيلة التي دشن من خلالها الشعر العربي الحديث ثورته على بنية الشعر التقليدي الراسخة. اللافت هنا أن هذا التشكيل لا يتوقف عند جسد النص وبنيته، إنما يحفظ له امتداده الروحي والجمالي في المكان، بما يحمله من عناصر متميزة، تجعله مفتوحاً على قوس الزمان كحلقة وصل بين دوراته المتعاقبة، فمن الخيال يبزغ الجمال، ويتنوع في الطبيعة وخطى البشر والأشياء، لكنه جمال مسكون دوماً في مرآة الذات الشاعرة بالقلق والحيرة والرحيل والحزن. لا شيء يحرسه سوى الشعر، وهوما يتجسد في الإهداء التي تصدر به الشاعرة الديوان بمقولة خاطفة، جاعلة من الشعر طوق النجاة: «إلى كل يد عاثت حزناً في قلبي إلى أن عرفت الشعر»، أيضاً يتضافر معه – على سبيل التصدير – مقولة للشاعر المهجري ميخائيل نعيمة يقول فيها «اعلموا أن جو هذي الأرض التي أنتم عليها ينعكس بكل ما فيه على صفائح قلوبكم، إنه يموج بذكريات كل ما شهده منذ تكوينه»… ينعكس هذا المعنى بظلال من الحيرة في قصيدة بعنوان «جرح بظهر الكون» تقول فيها:

«قربت عيني نحو مرآتي

شربت سوادها ورأيت ظلاً كالحطامْ

ها أنا الآن أبصر سوأة الدنيا على وجهي

ويذبل في فمي شجر الكلام

والوقت يسعى كالعناكب فوق جلدي

تاركاً حذراً كئيباً وانهزام.

أتذكر الآن الطريق وقد خلت من نفسها،

مبسوطة نحو الحياة يدي،

تعانقني الزهور، أطير يتبعني الحمام».

يتنوع الوعي بإيقاع المكان في قصائد الديوان، كما أن الشاعرة تعايشه وتستحضره كتميمة ضد الموت والزمن، تترك له جسدها وصورتها وطفولتها، وتتحسس في تضاريسه ملامح وجهها، ونبرة صوتها، وأشواقها وهمومها العاطفية، وكأنه مرآة خاصة تنعكس على صفحتها الطينة الأولى التي تتشكل منها هواجسها وأحلامها.

ومن ثم، فالوعي بالمكان كأثر ورحم لا ينفصل عن الوعي بالجسد ككينونة خاصة، بيد أنه ليس وعياً خالصاً لذاته، فأحياناً تصنعه لحظة عابرة، أو لقطة خافتة في مشهد ابن المصادفة المحضة، وأحياناً أخرى يتحول إلى مرثية، لوجود هش مثقل بالعزلة والوحدة والحزن. وأحياناً أخرى يعطل نموه الجمالي تتالي القافية بشكل يقرِّبها أكثر من مجاز السجع، فتبدو مقحمة على الحالة الشعرية، تحد من إيحاءات الصورة والدلالة والمعنى.

وبرغم هذه الهنات الطفيفة، تكشف أغلب القصائد عن هذا النزوع بسلاسة شعرية ولغوية، بل إن الذات الشاعرة تبث في ثنايا هذا الوعي رسائلها وأشواقها العاطفية الملتاعة، وتعلن موقفها من الوجود وانكسارها وتمردها على الواقع، كما تعتصم به كحصن أمان خشية الوقوع في شباك الحب المراوغة. مثلما يطالعنا على سبيل المثال في قصيدة «ليلة من خيال»، تقول في مطلعها:

«في ليلة

كان الخيالُ يلفُّ أغلفة الهواءْ

متسللاً رئة المكان،

باب المدينة مشرعٌ للزائرين

والليل يجلسُ

مثلَ قطٍّ أسودٍ ببهاء مصري قديم

وعلى ضفاف النهر أشجارٌ تسابق بعضَها

والسّنط يغرق في مشاهدة الصغار

وهم يجيدون التخفي،

والبنايات القديمة

سحرها ينساب حيَّاً في مخيلة الزمان».

بهذا الالتقاط الحي لعصب العلاقات الخفية بين الأشياء يبلغ المكان ذروته الدرامية والمشهدية، ويصبح معولاً لكشف فجوات المع والضد، واستشراف الوعي الإنساني الزائف بذاكرة المكان نفسه… لذلك تلح الشاعرة في قصيدة «وأنت تلوِّح لي» على أن تذكر صديقها – وهو يهم بالرحيل – بالمكان، ببشره وتفاصيله الحميمة «القرية طفلة النيل، الشمس وهي تنهش سطح البيوت، كفوف الصغار وهي تلهو بالغيوم، صورة الأم المريضة التي تنام كملاك». وفي قصيدة «عبور إلى البر الغربي»، التي تشكل خاتمة الديوان تربط الشاعرة عبور النهر بالذكرى، «بعاصفة من الذكرى عبرت النهر»، والذي يتحول بدوره إلى «بورتريه» شيق لوجه إنسان، تداعب أنفه، وتتحسس لفحة الموج على جبهتها. «كأن الشمس تلقي نفسها في الماء تدفئني، أحس دوائر ذهبية حولي تمسِّدني وتطرد لعنة الأفكار».

في الختام، أؤكد فرحي بهذا الديوان، وأنه يبشر بصوت شعري يعد بالكثير من العطاء المثمر في شجرة الشعر والحياة.



المصدر


اكتشاف المزيد من اشراق اون لاين

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من اشراق اون لاين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading