أهم الأخبار

المخرج الإيراني المعارض جعفر بناهي يحصد السعفة الذهبية في مهرجان «كان»


قد تكون الروائية السورية سمر يزبك في كتابها الجديد الصادر عن «دار الآداب» حاملاً عنواناً واضحاً ودالاً، «ذاكرة النقصان/ روايات أهل غزة عن الإبادة» هو الكتاب الأول الذي يحمل بين طياته توثيقاً مكتوباً لقصص وحكايات تلك الحرب الماحقة التي يعيشها القطاع منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، التي غيرت المنطقة بأسرها، ولا أحد يعرف متى تنتهي.

الأهم أنها شهادات يرويها أناس من لحم ودم، عاشوا ما لا يمكن تصوره، وما يشعر المرء أنه يتعذر كتابته أو التعبير عنه وإيجاد لغة توازيه، يمكنها التعبير عنه. مهمة شاقة، بل هي نوع من التحدي أن تتمكن من نقل ما لا ينقل، ووصف ما يفوق القدرة على الوصف. لذلك هي محاولة شجاعة، أن تحاول كاتبة أن تسجل ما ترويه ألسن أناس عاشوا آلاماً ليس لها اسم أو معادل في الكلام.

تستغل يزبك فرصة وجودها في الدوحة عند وصول جرحى من غزة مع عائلاتهم لتلقي العلاج، تتوجه إلى «مجمع الثمامة»، حيث تجّمع الناجون من الموت، بينهم مبتورو أطراف، وأصحاب حالات صحية خطيرة. فلم ينقل إلى خارج غزة في ذلك الوقت إلا ذوو الإصابات البالغة. عدد الواصلين مع عائلاتهم بلغ الألفين وخمسمائة شخص.

لم يكن غريباً، أن يخطر لسمر يزبك فكرة جمع شهادات لتوثيق المأساة، سبق لها أن فعلت ما يشبهه في أثناء الثورة السورية، كتبت وسجلت ونقلت، وأثارت حبراً كثيراً.

استرجعت مع رؤيتها للضحايا الفلسطينيين آلام سوريا، «كانت آثار دمار المدن السورية، في تلك اللحظات تتماثل أمامي، خيالات الضحايا وأنينهم ذاتها، إنها الكارثة مرة أخرى».

لكنها سرعان ما تستدرك أنها أمام فاجعة أبعد غوراً. «الأمر المفزع لي والذي كان تفصيلاً جديداً. لم أسمع عنه في حروب ثانية مهما كانت وحشيتها، هي طريقة القتل وأدوات القتل المتطورة». ما لا يمكن تخيله بالنسبة للكاتبة هو أنها هذه المرة أمام جرائم جماعية تقررها الخوارزميات بمفردها. «أي أن لحظة التردد الإنساني لم تعد ممكنة أو حتى محتملة». أضف إلى ذلك الطائرات المسيّرة، التي يروي عنها الشهود الغزيون ما يثير الفزع.

«هذه الكائنات الخرافية القاتلة، تدخل البيوت، غرف النوم، تقف على رؤوس الأطفال، تصدر التعليمات، تطلق النار على الرأس، تأخذ بصمة العين، تطلق النار على العين، ترافق أرتال النازحين والمجبرين على الرحيل من بيوتهم».

تبدأ غالبية شهادات المستجوبين، الذين خصص الكتاب لكل منهم صفحات تتسع لشيء من ألمه، يوم السابع من أكتوبر، هكذا يروي الشهود (الضحايا) كيف عاشوا تلك اللحظات المباغتة، قبل أن يغوصوا في قصّ تفاصيل الجحيم الذي سكب عليهم، وما عاشوه من تهجير، وإصابة وموت لأحبتهم، حيث إن مجموع هذه القصص التي يرويها أصحابها، تجعلك تعيش جهنم غزة وكأنك فيها. لمرة تكتشف أن لقطات الكاميرات التي تصور الموت على الهواء مباشرة، كانت عاجزة عن قول القصص الإنسانية أو أن تجعلك تفهم عمق التراجيديات الأسرية، وأن هذا التصوير المستمر للموت الجماعي، أفقد الفجيعة الفردية حقها في أن تكون حاضرة، ومروية ومسموعة. وكأنما ضجيج المجازر خسف حق الإنسان في أن يكون إنساناً يستحق الرحمة.

مهدت الكاتبة للشهادات بمقدمة، سكبت فيها خلاصة ما جال في خاطرها، وهي تجمع القصص من على ألسن المصابين. حاولت أن تتحدث عن جوامع مشتركة للذين تحدثت معهم. وجدت أنهم لم يذكروا في كلامهم «حماس» أو القضية الفلسطينية. «كانوا يتحدثون عن أنفسهم كأناس مدنيين مسالمين، عن أجسادهم التي تمزقت. كانوا يبوحون بصدق وعفوية، ويرغبون بأن يسمع العالم حكايتهم». جملة يرددونها: «لقد كنا نعيش الحرب منذ عقود، والآن نحن نعيش فعل إبادة».

أما الأطفال والشباب فكانوا الأكثر صمتاً «يعجزون عن إيجاد الكلمات المناسبة». طفل مراهق اسمه عبد الله (13 سنة) احترقت عائلته أمامه وهو يركب حافلة الأونروا. قال إنه ليس طفلاً، وإن غزة ليس فيها أطفال، لأنهم لا يذهبون إلى المدرسة كما أترابهم، ولا يعيشون بين عائلاتهم. غالبية من تحدثت يزبك معهم، يصرون على أن «يخرجوا صور عائلاتهم قبل أن يختفوا من الوجود، ويتحدثوا عنهم ويخاطبوهم كما لو كانوا لا يزالون بينهم».

الشهادات دامية، والقارئ لا يمكن أن يخرج من الكتاب كما كان قبل أن يقرأه. نحن لسنا أمام حرب. ونحن نقرأ نتأكد، أن كل واحد من الذين يتحدثون، كأنما كان مستهدفاً لذاته، أو أنه يجب أن يموت إن لم يكن بالقصف، ففي المستشفى بسبب تكدس الجرحى، وإن لم يكن لذلك فبسبب نقص الدواء أو الأطباء. وإن نجا فسيجد نفسه مضطراً لأن يحمل جراحة ويمشي إلى مكان آخر لأن القصف يبقى يطارده من خيمة إلى مدرسة، إلى طريق، حتى يتمكن منه.

أحد الشهود، خالد أبو سمرة (30 سنة)، طبيب في «مستشفى الشفاء». يخبرنا عن أهوال ما عاشه. رحلة يصعب وصفها أو قراءتها. يروي أبو سمرة أنه منذ لحظات القصف الأولى وقبل أن يعرف الأطباء حقيقة ما يحدث حولهم، كانت الإصابات المميتة تأتي من كل أنحاء القطاع، والمستشفى يتكدس فيه المصابون. ويضيف: «منذ اليوم الأول، انتهكوا كل الحدود، وكل قوانين حقوق الإنسان! ودعنا زميلنا المسعف طارق في الساعات الأولى… قتلوه وهو يؤدي واجبه». قصفوا مدرسة وسط مدينة غزة، سوق شعبية شمال القطاع، قصفوا كل شيء وأي شيء.

كانت «آلة القتل الإسرائيلية تعمل على مدار الساعة، والجرحى يصلون إلى المستشفى على مدار الساعة. كان مجمع الشفاء حاجز الدفاع الوحيد تقريباً عمن يسعفه الحظ وينجو من المجازر».

ومع ذلك حوصر المستشفى وقصف واستهدفت أقسامه بما فيها العناية المركزة ومرضاها. «كنا نصرخ أمام العالم كله، أن الجيش الإسرائيلي يقتحم مستشفى الشفاء بمرضاه ونازحيه السبعين ألفاً، لكن تركنا وحدنا، لم يكن من جدوى لاستغاثاتنا».

يروي الطبيب تفاصيل مروعة ويصل إلى عبارة يكررها الناجون وكأنها لازمة: «الموت رحمة». ويكمل: «هذا ما كنت أقوله لنفسي في كل مرة نرفع فيها جهاز التنفس عن أحد أسلم الروح. لقد قرأت كثيراً عن أطباء في حروب سابقة في هذا العالم أعطوا مرضاهم حقنة الموت الرحيم. في كل مرة أنظر في عيون الأطباء الذين كانوا في المستشفى أشعر كما لو أننا أقسمنا جميعاً أن نتشبث بأرواح مرضانا حتى آخر نفس».

جميعنا نعرف ما انتهى إليه مرضى هذا المستشفى وأطباؤه، لكن نكتشف أن من بقي حياً وخرج شاهد ما لا يمكن تخيله من عذاب. إما بسبب حمم من السماء أو انتقام الجنود الإسرائيليين على الأرض.

محمد فادي صالح (25 سنة) أصيب في شمال غزة، وهو بالقرب من منزله بشظايا صاروخ. نقل بصندوق سيارة مع آخرين، إلى مستشفى كمال عدوان الذي ليس فيه دواء ولا بنج ولا حتى معدات تشخيص. لذا حملوه إلى المستشفى الإندونيسي. هناك كانت الأمور أشد سوءاً لا مولدات، ولا كهرباء، والصورة التي أجريت له بشق الروح، لم تفسر الشلل الذي يعاني منه. بعدها نقل إلى مستشفى الشفاء وهو ينزف. وضعوا أنبوباً في صدره لتفريغ الدم الداخلي، لكن صورة مقطعية كانت لازمة لفهم سبب الشلل بقي إجراؤها مستحيلاً. هاجم الإسرائيليون المستشفى، طالبوا بإخلائه وقصفوا قسم الولادة. بعد ساعات من الرعب جاء عمه واضطر وهو مشلول لأن يسير معه نصف ساعة كي يستقلا سيارة إلى البيت. بعد 15 يوماً نقل خلالها، هرباً من القصف، من بيت إلى بيت وهو محموم ومشلول، تمكن الصليب الأحمر من إيصاله إلى مستشفى كمال عدوان ومن ثم مستشفى ناصر لكن حتى المسكّن لم يكن متوفراً لإسكات الألم الرهيب الذي يعاني منه. أصيب بجلطة بسبب عدم وجود عناية، إذ إن غاية ما توفر له هو المضاد الحيوي. لكن الأمر لم ينته هنا جاء الجيش الإسرائيلي وطلب إجلاء المرضى وترك من لا يستطيعون الحركة دون مرافقين.

احتل الجنود المستشفى. «جاء جندي إسرائيلي نحوي. قلت له بهدوء إنني مجرد جريح مشلول، لم يكتف بضربي، بل هددني بالاغتصاب». يروي هذا المصاب عظائم ما تعرض له هو وبقية المصابين: «كنت هناك في قلب الجحيم، عندما اقتحم الإسرائيليون المستشفى برفقة كلابهم المدربة، وأفلتوها علينا. الزنانة تحوم فوقنا، تهددنا بمزيد من القصف. بينما الاعتداء الجسدي واللفظي كان مزيداً من التحرش والإذلال والتهديد المستمر بالاغتصاب». الأمر لم ينته هنا بالطبع.

هي صفحات من «الجحيم»، «كابوس حي»، «أهوال يوم القيامة»، هذه بعض الكلمات التي يرددها أصحاب الشهادات. ومنهم ندى عيسى عياش (40 عاماً) من مخيم جباليا، التي ولدت خارج غزة، وقررت الانتقال إليها لتتزوج وتعيش مع باقي العائلة. تقول إن أجدادها عاشوا الحرب، وأبناءهم كذلك، وفي عائلتها شهداء كثر. «نحن سجناء في غزة منذ سنوات طويلة! منذ عشرين سنة أعيش في القطاع، أعيش الموت، موت يجيء وموت يذهب. أربع حروب ربما، أو خمس، لا أجيد العدّ، لكن لم يكن يصل الأمر إلى حد الإبادة».

مثل بقية الآخرين، فراس الشيخ رضوان، رأى هو الآخر ما لا يرى، فقد رجليه الاثنتين وأصبح على كرسي متحرك. يقول: «دمّرت إسرائيل حياتنا، هدمت بيوتنا، حوّلت أجسادنا إلى أشلاء، مزّقت عائلاتنا، لا أستطيع التفكير بكلّ هذا مرّةً واحدةً، لو فعلت فسأنفجر حينها بالتأكيد. ثمّ يحدث أن أرى الناس يمشون بينما أتدحرج على كرسيٍّ متحركٍ، فلا أملك إلّا أن أسأل نفسي: لمَ ذهبت الرجلان كلتاهما؟ لمَ لم تبق واحدةٌ على الأقل أتعكّز عليها».

أناس فقدوا عائلاتهم، أطْرافهم، أحشاءهم، قطعاً مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسو عِظامَهم، حَوَاسهم، مستقبلهم، ومعنى أن يبقوا على قيد الحياة.



المصدر


اكتشاف المزيد من اشراق اون لاين

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من اشراق اون لاين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading